لقد تبنت داعش مقتل الأقباط في كنيسة مار مينا. لكن لا شيء سيحطم هؤلاء الذين ظلوا صامدين بالرغم من اضطهاد دام أكثر من ألف سنة. إنما القوة لا تكمن في البقاء على قيد الحياة مهما كلف الأمر، بل في رفع الرأس واحتقار كل ما يحاول إذلال روحك. والقوة هي أن يدافع المرء عما هو مقتنع منه
وزير الخارجية التركية قال: “نحن لسنا فرنسا التي احتلي افريقيا”. هذا صحيح، فقد احتلت تركيا اكثر من ذلك بكثير. احتلت الشرق الأوسط، والقسطنطينية، وأوروبا الشرقية، وقسما كبيرا من آسيا، وقتلت الملايين من المسيحيين وغير المسيحيين في آسيا، وأوروبا، وأفريقيا.
The Turkish Foreign Minister Mevlut Cavusoglu said: “We are not France, which occupied Africa.” He is right. Turkey occupied the Middle East, Constantinople, Eastern Europe, a large part of Asia and Africa, and killed millions of Christians and non-Christians.
بعض الاصدقاء أرسلوا لي هذه الفيديو وهم مشمئزين. لكنني لا أحكم على الناس من خلال العوائد والمعتقدات التي ورثوها، بل من خلال قلوبهم كما تدل عليها أعمالهم.
وقد ايقظ هذا الفيديو في ذهني ذكرى معلقة امرئ القيس، “قفا نبكي” بخاصة البيت الذي يصف العذارى يرتمين بلحم الناقة وشحمها، وهو كهدام الدمقس (اي الحرير الذي فيه رسوم من صلب النسيج):
الإبادة الجماعية في لبنان في الحرب العالمية الاولى
شكرا للذين قاموا بهذا التوثيق. وجدت فيه بعد الأخطاء إنما هي صغيرة نسبة الى أهمية هذا العمل. فقد أثبت في أحد كتبي الأسباب التي كانت ترغم العثمانيين الى إبادة اللبنانيين، وهذه فرصة كانوا ينتظرونها منذ عقود. أما مجزرة الأرمن، فلم تنته قط قبل إبادة اللبنانيين، لأن هذه الإبادة بدأت قبل إبادة الأرمن بأيلم. وقد جرت إبادة جميع الشعوب المحكوم عليها بالقتل، في الوقت نفسه. كذلك، أبيد اللبنانيين بواسطة الجوع لأنهم ــ عكس الشعوب المسيحية التي أبيدت في أرمينيا وتركيا وسوريا والعراق ــ كان يراد إبادتهم مسيحيين ومسلمين ودروز. في البلدان الأخرى أبيدت طوائف. في لبنان أبيد شعب.
الربيع العربي السعودي ينتهي بالأشلاء. هذا الشاب السعودي، علي محمد باقر النمر في السجن وينتظر تنفيذ حكمه، أي قطع رأسه، ثم صلبه وتركه على الصليب حتى اهتراء جسده. جريمته فظيعة: فقد شارك في تظاهرة سنة ٢٠١٧ وهو في عمر ال١٧. والعالم يتكلم بحقوق الإنسان
هل تذكرون قصة تحرير الإرهابي شادي المولوي التي خضت لبنان؟ وبات المولوي أخطر إرهابيي لبنان. وهل تذكرون حادثة الكويخات، وزج العسكريين في السجن، ثم إخراجهم، ثم زجهم في السجن مرة أخرى؟ هذا ما ترويه هذه الرسالة ل لينا المر نعمة التي نشرتها في ١٦ تموز ٢٠١٢. وكونها نشرت في هذا الزمن، يعطيها مصداقية أكثر، لأن الناس كانوا يعيشون هذه الأحداث التي نعاني من نتائجها كل يوم، وكانوا قادرين على تكذيبها لو كانت تكذب. سرقة المال العام في القروض السكنية ليست العمل الأكثر فسادا الذي ارتكبه ميقاتي. حمايته للإرهابيين أخطر بكثير
وديع الأسمر، رئيس شبكة أوروميد لحقوق الانسان التي تضم أكثر من ٨٠ منظمة من ضفتي المتوسط، ورئيس المركز اللبناني لحقوق الانسان، يعمل في مؤسسة “معلوماتية قطر” منذ ٢٠١٨ ويسكن في قطر. لكن وديع الأسمر لا ينتقد قطر. ما يعني أنه في نظره، قطر تحترم حقوق الانسان ــ وهي تقطع الرؤوس، وتجلد المثليين، وتجلد المسلمين إذا شربوا كأسا من الخمر، وتحكم على المرتدين بالقتل، وتسجن الشعراء إذا انتقدوا الأمير، وتجلد من يمارس الجنس خارج الزواج، وتمنع المسيحيين من إظهار صليب أو تمثال خارج كنيستهم، أو من قرع الأجراس. أما لبنان، فلا يحترم حقوق الانسان، لأنه يعاني من مشكلة النفايات، ولأن أهل جبيل تذمروا من إقامة سهرة
أنتجت الحرب على العراق عام 2003 تنظيم داعش. وقد تنتج حربا مماثلة على سوريا، وحشدًا أشدّ فظاعة من داعش.
بعد ضربات 11 أيلول2001، اتّخذ جورج بوش الابن القرار بغزو العراق. وكُلِّفَت وكالة الاستخبارات الأميركيّة CIA إثبات تورّط صدّام حسين في هذه الاعتداءات، وتملكه أسلحة كيميائيّة. وشُنَّت حملة إعلاميّة شرسة وغير مسبوقة، نجحت في إقناع الشعب الأميركي وجزء من المجتمع الدولي بضرورة القضاء على النظام العراقي.
وفي 5 شباط 2003، لنيل موافقة الأمم المتّحدة، أدلى في مقرها وزير الخارجيّة الأميركية كولن باول، بخطاب مسهب. وادّعى فيه أنّ صدّام حسين يملك أسلحة كيميائيّة ونوويّة، وأنّ لديه علاقات مع تنظيم “القاعدة” تمرّ عبر أبو مصعب الزرقاوي. وبالتالي تتوجّب مهاجمة العراق لحماية العالم الحر من خطر رهيب آتٍ.
كان الزرقاوي مجرمًا أردنيًّا أصبح إسلاميًّا بتأثير من جماعة “التبليغ”. وقد عرض نفسه على أسامة بن لادن واقترح عليه أن يفوّض إليه تأسيس فرع لتنظيم “القاعدة” في العراق. لكنّ بن لادن رفض، لأنّ الزرقاوي كان بالنسبة إليه لصًّا، بل مجرما، فهو يريد قتل الشيعة وإشعال حرب أهليّة بين السنّة والشيعة في العراق. ومن خلال تمزيق الشعب العراقي، كانت هذه الحرب الأهليّة لتتيح صعود نجم “القاعدة” وتمكنها من أخذ السلطة في العراق. إلاّ أنّ بن لادن لم يكن لديه أيّ نيّة لقتل الشيعة، وكان قد نجح بالتفاهم مع آية الله الخميني، في سعيه إلى إرساء حلف بين جميع المسلمين ضدّ “الكفّار” الذين كان يطلق عليهم اسم “الصليبيّين”.
لم تكن “القاعدة” موجودة في العراق، لأنّ صدّام حسين لطالما صدّ جميع عروض بن لادن. وكان يقاتل القاعدة ويحاول توقيف الزرقاوي. إلاّ أنّ هذا الأخير كان يختبئ في الأراضي الكرديّة، ويصنّع الذخائر والأسلحة الكيميائيّة، ولاسيّما منها سمّ الريسين، وهو سمّ فتاك لم يكن يوجد له أيّ ترياق.
وتكلّم كولن باول عن مصنّع السموم الصغير هذا كما لو كان ندًّا لأسامة بن لادن. فحول الزرقاو يالى وحش من العيار الدولي. وما عاد بن لادن قادرًا على تجاهله، فوافق على تأسيس “القاعدة في العراق”. وأعلن الزرقاوي الولاء لبن لادن، ثم اختفى لبعض الوقت. كان يريد البقاء على قيد الحياة، في انتظار أن يطيح الأميركيّون صدّام حسين، حتّى يأخذ هو مكانه كزعيم للسنّة في العراق.
وما إن اجتاح الأميركيّون بغداد، حتى اتخذوا قرار حلّ الجيش العراقي. فرموا في الشارع 350 ألف عنصر كانوا يعتاشون من الجيش. ولم يرفضوا منحهم تعويض الفصل من الخدمة وحسب، بل حجبوا عنهم أيضًا الأجور المستحقّة لهم. وبات هؤلاء العسكريّون عاطلين من العمل، من دون أن يقبل أحد بتوظيفهم، حتّى وقعوا في براثن الجوع مع عائلاتهم. وجنّد الزرقاوي من بينهم عددًا كبيرًا من المقاتلين والقادة المدرّبين والمخضرمين. (هؤلاء سيشكلون في ما بعد نواة جيش داعش، وسيحقّقون لها الانتصارات الساحقة). وجاء “الجهاديون” من العالم كله الى العراق، ينفذون العمليات الانتحارية. فكان يموت في الانفجارات كلّ شهر ما يقارب ألف عراقي، أكثرهم من الشيعة. وهكذا تمكن الزرقاوي من إشعال تلك الحرب الأهليّة الّتي كان يتمناها، إذ كان انقسام الشعب العراقي يضاعف قوته.
في حزيران 2006، قُتِل الزرقاوي في غارة أميركيّة. وخلفه معاونه أبو بكر البغدادي الّذي نجح في توحيد كل المنظّمات الإسلاميّة السنيّة في العراق. وأطلق على هذا التكتّل الّذي يقوده تنظيم”القاعدة” اسم “الدولة الإسلاميّة-العراق”.
عام 2011، اندلعت الحرب في سوريا، فقرر البغدادي الاستفادة من ذلك لإنشاء فرع للقاعدة هناك. فكلف معاونه أبو محمّد الجولاني (اسمه الحقيقي أسامة العبسي) مهمة تأسيسه. وأرسله إلى سوريا، وأعطاه نصف ماله، ونصف سلاحه، وأفضل معاونيه. وبدأ الجولاني يشتري المقاتلين، فأسّس منظّمة أُطلق عليها اسمان. الاسم الأول هو “جبهة النصرة لأهل الشام”، والثاني هو “تنظيم القاعدة في بلاد الشام”. وفي ما بعد أطلق عليها اسم “جبهة فتح الشام”.
وهنا ينبغي التذكير بأن “الشام” هو الاسم الذي يطلقه العرب على المشرق (أي: لبنان ـ سوريا – فلسطين أو إسرائيل-الأردن). “فتح الشام” يعني إرادة اجتياح جميع هذه البلدان. وكما يعرف لبنان، فقد حاولت جبهة النصرة احتلاله عن طريق عرسال وريفها، وعن طريق القلمون. وقد ذبحت بعض جنودنا، لكنها لم تستطع أن تجتاح لبنان بسبب بسالة جيشه.
وعظم شأن “النصرة” بعدما ضمّت إلى صفوفها عناصر من “الجيش السوري الحرّ”، بتقديم أجور تفوق أجوره. و”الجيش السوري الحرّ” بنفسه تكوَّن من عناصر انشقوا عن الجيش النظامي في مقابل أجور أكبر.
ولم يعد الجولاني يطيق طاعة البغدادي. فقرّر الأخير مهاجمته وضم منظمته. فغير اسم “الدولة الاسلاميّة-العراق” إلى “الدولة الاسلاميّة في العراق والشام”، أي “داعش”.
كانت المملكة السعوديّة قد موّلت بن لادن لزمن طويل، مما أتاح له إنشاء “القاعدة”. وقامت المملكة بعد ذلك بتمويل الزرقاوي، والبغدادي، وداعش. فيما بعد، توقّفت عن تمويل داعش، وصبّت اهتمامها على النصرة و”الجيش السوري الحرّ”، اللّذين يفضّلهما الغرب زاعمًا أنّهما “معتدلان”. إلاّ أنّ مجاهدي “الجيش السوري الحرّ” كانوا أوّل من قطع الرؤوس ونشر الشرائط المصوّرة لعرض هذه الأفعال. وحدهم تباهوا أمام عدسات الكاميرات، وعلى وقع صيحات التكبير، لأن أحد قادتهم أكل قلب جندي من الجيش النظامي.
وهكذا، قدّمت بعض الدول الغربية إلى الإرهابيّين في سوريا تدريبًا عالي الجودة، وأسلحة لإطاحة نظام بشّار الأسد العلماني، وذلك على الرغم من إرادة غالبية الشعب السوري الذي لا يفضّل المنظّمات الجهاديّة على الأسد.
يتحدّث الأميركيّون اليوم عن مهاجمة بشّار الأسد كما فعلوا مع صدّام حسين، وذلك بذريعة استخدامه الأسلحة الكيميائيّة، وهو أمر لم تتثبّت منه أيّ من بعثات التحقيق الدوليّة حتّى الآن. وقد شنوا بعض الضربات بمعاونة الدول الفرنسية والإنكليزية. ويُسمّى هذا العمل في القانون الدولي بـ”الاعتداء على دولة ذات سيادة”. فإذا افترضنا حدوث اجتياح أميركي شامل يشبه اجتياح العراق، فبمن يُستبدَل بشّار؟ وحدهم القادة الإرهابيون يتمتعون في سوريا بقوة تقارب قوته الشعبية. أمّا الأشخاص ذوو المستوى الأخلاقي الّذين انضووا في صفوف المعارضة قبل الحرب، مثل ميشال كيلو، فقد أزاحهم الإسلاميّون، فانسحبوا لأنّهم رفضوا أن يتمّ استخدامهم كضمانة للمنظّمات الجهاديّة.
إسقاط بشار الأسد، قد يترك إذًا في سوريا فراغًا مؤسّسيًا يُشبه الفراغ الّذي أحدثه الأميركيّون في العراق، لمّا استبدلوا الحكومة الّتي أجادت الإمساك بزمام الأمور، بأخرى ضعيفة، فاسدة، تطيع أوامرهم، مكروهة من الشعب. إنّها الاستراتيجيّة المعهودة للفاتح الّذي يعيّن الرجال الدمى لتمثيله. إذا حدث ذلك، فسنشهد ولادة وحش أفظع من داعش، قد لا يتمكن الغرب من الإفلات منه. فالجولاني وسيّده السابق، البغدادي، يتشاركان العقيدة نفسها، والطموحات نفسها، ويعتمدان الأساليب نفسها. تدمير داعش ساعد الجولاني في شكل مدهش، إذ خلّصه من أهم خصم له. ولم يبقَ ما يعيق وصوله إلى السلطة سوى حاجز واحد: بشّار الأسد.
إن زوال داعش في المشرق يخلي سبيل العديد من الإرهابيين كل يوم. فأين يذهب هؤلاء الإرهابيون المتضعضعون، إلَّا إلى مَن يدفع المال بوفرة، أي الجولاني وجبهة النصرة؟.
أمراء “النصرة” يأملون في الخلافة لتنظيمهم. وهم يستأنفون العمل على برنامجهم لغزو العالم. وينتظرون فرصتهم في صمت. على أمل ألَّا يقدمها لهم الغرب، فنحن في غنى عن ذلك.
بعد ٣٠ أيلول ٢٠٠٥، قتل المتعصبون النيجيريون العشرات أو المئات من مسيحيي نيجيريا بسبب كاريكاتور صُنعت في الدانمارك، ولا علاقة لنيجيريا بها. ودمروا الآلاف من الكنائس.
وسكت العالم.
في ١٥ نيسان ٢٠١٤، قام قسم من هؤلاء المتعصبين، ويدعون أنفسهم «بوكو حرام» ، بغزو مدارس وبخطف ٢٣٤ تلميذة، واغتصبوهن، وباعوا جزء منهن بـ ١٠ أورو الواحدة لمن يريد استعمالهن للخدمة أو للجنس، كونهن مسيحيات في غالبيتهن.
وسكت العالم.
وتتعدى أيضًا «بوكو حرام» على أهل السنة الذين يشكلون غالبية سكان الشمال. فتجتاح الآن شمال نيجيريا على الشكل الذي اجتاحت فيه داعش الموصل، وتقتل مَن يعارضها.
والعالم يسكت.
منذ أيام قتلت «بوكو حرام» في باغا ١٥٠ من الأبرياء حسب دولة نيجيريا، و٢٠٠٠ حسب المنظمات الإنسانية.
فسكت العالم.
ثم قال:
«أنا شارلي».
عكس ما يظن الناس، فإن مصالح لا ضمير لها تؤثر في الإعلام الأميركي في حقل السياسة الخارجية. وهذه المصالح هي أحيانًا متصلة بالدولة الأميركية.
لا يسهل كشف ذلك، لأن الصحافيين في الولايات المتحدة الأميركية وقحون في حقل السياسة الداخلية. فلا يعرف المواطن الأميركي العادي ما يكفي في حقل السياسة الخارجية ليتمكن من التأكد من المعلومات المقدمة إليه… أو من معرفة التي تُخفى عنه.
كنتُ في لبنان في شباط ١٩٨٩، وتعاقدتُ مع صاحب مطبعة لطباعة صور لطاقم من رسوماتي. ثم عدتُ إلى أميركا، حيث كنت أعيش آنذاك، قرب بوسطن، ولم أكن أعلم أني ركبتُ في الباخرة الأخيرة قبل أن يُقفل مرفأ جونيه لمدة طويلة بسبب القصف. وبعد ثلاثة أسابيع، إذ كنتُ في حاجة إلى الصور، اتصلتُ بأهلي في لبنان، وسألت أبي هل تسلّمَ المطبوعات. فقال لي:
ــ كلا. لم أكن أعلم. فلو علِمتُ، لما سألتك عن المطبوعات.
ــ لم نعانِ قصفًا كثيفًا كهذا قط. لكننا سُعداء، لأن لبنان، أخيرًا، أعلن الحرب على سوريا.
كان الخبر لا يُصَدَّق. فقد بدأت الحرب سنة ١٩٧٥، وسرعان ما احتل الجيش السوري جزءًا من لبنان. وكان الجيش اللبناني يحاربه في بعض المناطق، لكن السياسيين اللبنانيين لم يتجرأوا يومًا على التحدث عن ضرب الجيش السوري علنًا في لبنان.
فاتصلتُ بالصحافيين اللبنانيين الذين أعرفهم في أميركا، فأكدوا لي وجود تعتيم إعلامي أميركي تجاه لبنان. وأرسل إلي أحدهم بالفاكس، نص برقية لأوقِّعها وأرسلها إلى البيت الأبيض، إلى جورج بوش الأب، الذي كان رئيسًا للولايات المتحدة آنذاك. وكان موقّع البرقية يدعو بوش إلى السماح للإعلام الأميركي بقول الحقيقة في ما يتعلق بالقصف السوري للبنان.
بعد بضعة أيام، توقف التعتيم الإعلامي الأميركي تجاه لبنان. فاتصلتُ بالصحافي نفسه وسألته ما جرى. فقال لي:
ــ لقد أرسلنا ٥٠ ألف برقية إلى البيت الأبيض. هذا ما أوقف التعتيم الإعلامي. اقرأي الـ«بوسطن غلوب».
في ٢ آذار، نشرت صحيفة الـ«بوسطن غلوب» الافتتاحية التالية:
«منذ ١٤ آذار، يعاني شعب بيروت قصفًا مدفعيًّا حوّل حياته إلى كابوس. ففي ليلة واحدة، أطلِقَت ٥ آلاف قذيفة من المواقع السورية في بيروت الغربية، على الأحياء المسيحية في بيروت الشرقية. وأضرم القصف النار في خزانات عملاقة من الوقود، وباتت الحرائق خارج السيطرة. وعطّل القصف محطات لتوليد الطاقة الكهربائية. وبما أن بيروت تستعمل المضخات الكهربائية لجلب المياه، فانقطاع الكهرباء يعني مدينة من دون نور ومن دون ماء. «وقد ضُغِطَ على الصحف والتلفزيونات في أميركا، كي لا تنبئ الجمهور بمأساة قصف بيروت ــ مئات الإصابات، وآلاف اللاجئين الهاربين جنوبًا. والإدارة التي يرأسها بوش لازمت الصمت.»
مَن كان في وسعه الضغط على كل الإعلام الأميركي كي لا يقوم بواجبه بينما كانت الإدارة الأميركية تلزم الصمت؟ ولماذا؟
أما نتائج هذا الضغط على الإعلام في أميركا، فهي مذهلة:
ما بين ١٤ آذار و٢ نيسان ١٩٨٩، تاريخ الافتتاحية المترجمة أعلاه، يبدو، جراء قراءة مقالات الـ«بوسطن غلوب»، كأن شيئًا لم يحدث في لبنان، باستثناء هدنة من حين إلى آخر، وبعض القتال بين المسيحيين والميليشيويين المسلمين أو الدروز. وإذا قرأنا المقالات السبع التي تختص بهذا الموضوع بين ١٤ آذار و١ نيسان ١٩٨٩، نجد أن ٣ منها تتكلم على هدنات، و٤ تقول إن القتال هو بين المسيحيين والميليشيويين المسلمين أو الدروز، من دون أي تدخل سوري. واحد منها يقول إن الجيش السوري لا علاقة له بما يجري ويقوم بعملية إعادة انتشار وقائية. ولا يقول أي مقال إن سوريا لها يد في القصف. ومقال واحد (وهو التصحيح الثالث لمقال سابق)، يذكر أن جنرالاً يقود «حكومة عسكرية مسيحية» يقول إن القتال هو ضد القوات السورية.
وهذه خلاصات المقالات السبع التي تختص بهذا الموضوع بين ١٤ آذار و١ نيسان، ١٩٨٩، كما يجدها القارئ في أرشيف الـ«بوسطن غلوب».
ـ١٥ آذار ١٩٨٩، عنوان: «مات ٤٠ لبنانيًّا في شجارات طائفية». ملخص: «مات أقله ٤٠ شخصًا، أكثرهم من المدنيين، في ١٥ آذار ١٩٨٩ في بيروت، جراء القصف المدفعي في معارك بين الجيش المسيحي وميليشيات المسلمين، فسقطَت مئات القذائف على الأحياء السكنية في بيروت. ـ١٥ آذار ١٩٨٩، (تصحيح ثالث). عنوان: «مات ٤٠ لبنانيًّا في شجارات طائفية». ملخص: «الجنرال ميشال عون، الذي يقود حكومة عسكرية مسيحية و٢٠ ألف جندي مسيحي، قال أمس: “إنها حرب تحرير ضد قوات الاحتلال السورية. وقد بدأت المعركة“. وقد دمّر القصف مركَز عون [وزارة الدفاع]. وقال البوليس إن قوات عون قصفَت، بعد الظهر، مدينة شتورة الحدودية [كذا: شتورة في وسط لبنان]، وهي مركز القوات السورية في سهل البقاع، شرق لبنان. فقطعَت الطريق السريع الذي يصل بيروت بدمشق. أما الجنرال سامي الخطيب، الذي اختاره سليم الحص ليقود الجنود المسلمين الـ٢٢ ألف في الجيش اللبناني، فقد ظل خارج المعركة المسيحية ـ الدرزية. وجنوده يفتقرون إلى المعدات، وهم متفرقون في كل الأراضي اللبنانية المسلمة، وهي إجمالاً تشمل بيروت الغربية، والأحياء الفقيرة في جنوب العاصمة، وجنوب لبنان والمناطق الساحلية. ـ١٦ آذار ١٩٨٩، عنوان: «تسود هدنة متوترة غير معلنة بين اللبنانيين». ملخص: «توقفت القوات المتخاصمة المسيحية والمسلمة، بعد يومين من العراك الذي قتل ٥٠ شخصًا وجرح آخرين، ويسود توتر غير معلن وسط إنذارات بتجديد القتال. » ـ١٩ آذار ١٩٨٩، عنوان: «يستمر القصف الأرضي في التلال قرب بيروت». ملخص: «قتال بالمصفحات والمدفعية بين العسكر الذي يقوده مسيحيون والميليشيات المقربة من سوريا، على التلال المحيطة ببيروت. وقد قُدِّمَت أسباب للقتال الأخير.» ـ ٢١ آذار ١٩٨٩، عنوان: «قتال بالمدفعية وغارات جوية تهز لبنان.» ملخص: «تصاعد العنف بين القوى المسيحية والقوى المسلمة في لبنان، فيما طائرات إسرائيلية قصفت مواقع فلسطينية في سهل البقاع». ـ ٢٣ آذار ١٩٨٩، عنوان: «إعادة انتشار القوات السورية الموجودة قرب بيروت». ملخص: «نقَلَت سوريا قواتها في بيروت إلى مواقع جديدة، وطالبت بإطاحة الزعيم المسيحي ميشال عون. وسبب إعادة تنظيم الجيش السوري هذه، الخوف من إمكان قيام حرب بين قوات عون والمسلمين السوريين.» ـ ٢٩ آذار ١٩٨٩، عنوان: «بدء الهدنة اللبنانية. استمرار القصف الأرضي». ملخص: «قبل الجيش اللبناني وقف إطلاق النار لإعطاء الجامعة العربية حظوظًا في المفاوضة لإنهاء الأزمة اللبنانية.»
غريبة تبعية الإعلام هذه، في بلد يدّعي أن إعلامه هو الأكثر حرية في العالم! في بلد حر، لا حاجة إلى إرسال برقيات إلى الرئيس، كي يروي الصحافيون مأساة بهذه العظمة. المال أو وسائل ضغط أخرى، تجعل الإعلام الأميركي يقبل، في موضوع السياسة الدولية (الذي يفوق كل المواضيع الأخرى أهمية) رقابة ذاتية تشبه الرقابة التي يفرضها الرعب في الديكتاتوريات.
وكان البيت الأبيض، بواسطة سفارته، يعرف كل ما يجري في لبنان. وقد نشرت ويكيليكس برقية كتبها السفير الأميركي في بيروت، جون ماكارثي، في ١٤ آذار ١٩٨٩. وهي تتكلم على القصف، وتقول إن نبيه بري أراد إنباء السفير أنه لم يكن هو مَن قصَف وزارة الدفاع اللبنانية. وطبعًا فهم السفير أنه يعني الجيش السوري. فباستثناء حركة أمل، لم يكن يوجد في بيروت الغربية، أي قوة تملك مدفعية تستطيع القيام بمثل هذا القصف، سوى الجيش السوري:
لماذا بقي جورج بوش صامتًا على مأساة لبنان في آذار ١٩٨٩، على الرغم من التقارير اليومية التي كانت تصل إليه من الدبلوماسيين والجواسيس؟
ربما لأن جورج بوش كان يريد إطلاق العنان للجيش السوري وللميليشيات التي تمولها سوريا والمملكة السعودية. فهو سيوافق على الاحتلال السوري الكامل للبنان (١٣ تشرين ١٩٩٠). وقبل هذا الاحتلال ببضعة أيام، سيحضّر جورج بوش الرأي العام الأميركي بدعوة ممثلي الأميركيين من أصل شرق أوسطي، إلى مقابلته في البيت الأبيض، في ٢٤ أيلول ١٩٩٠. وفيهذه الجلسة، رفض بوش فكرة مساواة لبنان بالكويت في الحقوق، وحافظ الأسد وصدام حسين في العقاب، وقد سفك حافظ الأسد الدم البريء أكثر من صدام. واجتاح حافظ الأسد لبنان، قبل أن يجتاح صدام حسين الكويت بكثير. لا بل أعلن بوش أن حافظ الأسد سيتدخل في لبنان لإنهاء انقسام هذا البلد (أي أنه سيجتاحه بكليته). وهكذا انتهت الجلسة:
ــ (امرأة:) أرجوك، دعني أطرح سؤالاً عن لبنان!
ــ (بوش:) أطلقي النار! [تكلمي في سرعة]
ــ(المرأة:)…دولتنا اتخذت تجاه الكويت جميع الإجراءات التي طلبنا أن تتخذها تجاه سوريا التي ارتكبت عدوانًا [على لبنان] مشابهًا للعدوان العراقي على الكويت. يبدو أن سوريا هي الآن حليفة دولتنا والدول الأخرى ضد العراق. هذا ما لا نفهمه، إلاّ اذا قررت دولتنا استعمال العدوان [على الكويت]، لإرغام حافظ الاسد على التصرف بالطريقة الحضارية التي نفرضها على صدام حسين. وهذا سؤالي: ما هي الخطة الذي نتّبعها لمنع سوريا من التصرف بحسب هذه المعايير؟ وإن لم تكن لدينا أي خطة، ألا يهدد تحالفنا مع سوريا، من الناحية الأخلاقية، موقفنا المتعلق بالجهد العالمي لمحاربة العراق؟
ــ(بوش:) الأشياء هناك معقّدة جدًّا، وتصعب الإجابة عن سؤالك في دقة. لكن ربما سيبرز من ذلك نظام عالمي جديد. من هنا يجب الخروج بحل سلمي لانقسام لبنان [بوش يدعي أن حرب لبنان أهلية]. لقد ذهبتُ إلى هذا البلد، وعملتُ فيه منذ سنوات. وأنا مسنّ بما فيه الكفاية… وأذكر أن لبنان كان مفترق طرق هادئًا. كانت تجارته تتابع سيرها، مهما جرى في سائر العالم، والبشر يعيشون في محبة، والأديان وطرق العيش المختلفة في ازدهار.
وأنهى بوش كلامه قائلاً:
ــ نريد تقديم المساعدة… لإعادة السلام إلى لبنان. ولسوريادورًاأساسيًّا تلعبه في ذلك… وآمل أن يبرز من كل هذا، نظام عالمي جديد ـــ إن أردتم ـــ سيبرز إن بقينا جميعًا [مع حافظ الأسد] معًا للعمل في سبيل السلم في لبنان.
هكذاتكلمرئيسدولةديمقراطية،علنًا،على ديكتاتورية تضع نهايةلنظامديمقراطيبواسطةاجتياح دموي. عِلمًا أن حافظ الأسد كان أخ صدام حسين التوأم سياسيًّا، وأنه قتل أكثر منه بكثير، في بلده وخارجه.
ويجب مقارنة ذلك بالطريقة التي تعامل بها السلطة الأميركية السلطة السورية مذ غادرت الأخيرة لبنان، وقبلت الاعتراف به كدولة حرة وذات وجود مستقل، فتبادلا سفراء بينهما، للمرة الأولى في التاريخ. هذا،علمًاأنبشارالأسد،عكسأبيه،لميكنقدارتكبالمجازرقبل إشعالالحرب في سوريا وإضرامها من قبل دول سنتكلم عليها في مقال لاحق.