أنتجت الحرب على العراق عام 2003 تنظيم داعش. وقد تنتج حربا مماثلة على سوريا، وحشدًا أشدّ فظاعة من داعش.
بعد ضربات 11 أيلول2001، اتّخذ جورج بوش الابن القرار بغزو العراق. وكُلِّفَت وكالة الاستخبارات الأميركيّة CIA إثبات تورّط صدّام حسين في هذه الاعتداءات، وتملكه أسلحة كيميائيّة. وشُنَّت حملة إعلاميّة شرسة وغير مسبوقة، نجحت في إقناع الشعب الأميركي وجزء من المجتمع الدولي بضرورة القضاء على النظام العراقي.
وفي 5 شباط 2003، لنيل موافقة الأمم المتّحدة، أدلى في مقرها وزير الخارجيّة الأميركية كولن باول، بخطاب مسهب. وادّعى فيه أنّ صدّام حسين يملك أسلحة كيميائيّة ونوويّة، وأنّ لديه علاقات مع تنظيم “القاعدة” تمرّ عبر أبو مصعب الزرقاوي. وبالتالي تتوجّب مهاجمة العراق لحماية العالم الحر من خطر رهيب آتٍ.
كان الزرقاوي مجرمًا أردنيًّا أصبح إسلاميًّا بتأثير من جماعة “التبليغ”. وقد عرض نفسه على أسامة بن لادن واقترح عليه أن يفوّض إليه تأسيس فرع لتنظيم “القاعدة” في العراق. لكنّ بن لادن رفض، لأنّ الزرقاوي كان بالنسبة إليه لصًّا، بل مجرما، فهو يريد قتل الشيعة وإشعال حرب أهليّة بين السنّة والشيعة في العراق. ومن خلال تمزيق الشعب العراقي، كانت هذه الحرب الأهليّة لتتيح صعود نجم “القاعدة” وتمكنها من أخذ السلطة في العراق. إلاّ أنّ بن لادن لم يكن لديه أيّ نيّة لقتل الشيعة، وكان قد نجح بالتفاهم مع آية الله الخميني، في سعيه إلى إرساء حلف بين جميع المسلمين ضدّ “الكفّار” الذين كان يطلق عليهم اسم “الصليبيّين”.
لم تكن “القاعدة” موجودة في العراق، لأنّ صدّام حسين لطالما صدّ جميع عروض بن لادن. وكان يقاتل القاعدة ويحاول توقيف الزرقاوي. إلاّ أنّ هذا الأخير كان يختبئ في الأراضي الكرديّة، ويصنّع الذخائر والأسلحة الكيميائيّة، ولاسيّما منها سمّ الريسين، وهو سمّ فتاك لم يكن يوجد له أيّ ترياق.
وتكلّم كولن باول عن مصنّع السموم الصغير هذا كما لو كان ندًّا لأسامة بن لادن. فحول الزرقاو يالى وحش من العيار الدولي. وما عاد بن لادن قادرًا على تجاهله، فوافق على تأسيس “القاعدة في العراق”. وأعلن الزرقاوي الولاء لبن لادن، ثم اختفى لبعض الوقت. كان يريد البقاء على قيد الحياة، في انتظار أن يطيح الأميركيّون صدّام حسين، حتّى يأخذ هو مكانه كزعيم للسنّة في العراق.
وما إن اجتاح الأميركيّون بغداد، حتى اتخذوا قرار حلّ الجيش العراقي. فرموا في الشارع 350 ألف عنصر كانوا يعتاشون من الجيش. ولم يرفضوا منحهم تعويض الفصل من الخدمة وحسب، بل حجبوا عنهم أيضًا الأجور المستحقّة لهم. وبات هؤلاء العسكريّون عاطلين من العمل، من دون أن يقبل أحد بتوظيفهم، حتّى وقعوا في براثن الجوع مع عائلاتهم. وجنّد الزرقاوي من بينهم عددًا كبيرًا من المقاتلين والقادة المدرّبين والمخضرمين. (هؤلاء سيشكلون في ما بعد نواة جيش داعش، وسيحقّقون لها الانتصارات الساحقة). وجاء “الجهاديون” من العالم كله الى العراق، ينفذون العمليات الانتحارية. فكان يموت في الانفجارات كلّ شهر ما يقارب ألف عراقي، أكثرهم من الشيعة. وهكذا تمكن الزرقاوي من إشعال تلك الحرب الأهليّة الّتي كان يتمناها، إذ كان انقسام الشعب العراقي يضاعف قوته.
في حزيران 2006، قُتِل الزرقاوي في غارة أميركيّة. وخلفه معاونه أبو بكر البغدادي الّذي نجح في توحيد كل المنظّمات الإسلاميّة السنيّة في العراق. وأطلق على هذا التكتّل الّذي يقوده تنظيم”القاعدة” اسم “الدولة الإسلاميّة-العراق”.
عام 2011، اندلعت الحرب في سوريا، فقرر البغدادي الاستفادة من ذلك لإنشاء فرع للقاعدة هناك. فكلف معاونه أبو محمّد الجولاني (اسمه الحقيقي أسامة العبسي) مهمة تأسيسه. وأرسله إلى سوريا، وأعطاه نصف ماله، ونصف سلاحه، وأفضل معاونيه. وبدأ الجولاني يشتري المقاتلين، فأسّس منظّمة أُطلق عليها اسمان. الاسم الأول هو “جبهة النصرة لأهل الشام”، والثاني هو “تنظيم القاعدة في بلاد الشام”. وفي ما بعد أطلق عليها اسم “جبهة فتح الشام”.
وهنا ينبغي التذكير بأن “الشام” هو الاسم الذي يطلقه العرب على المشرق (أي: لبنان ـ سوريا – فلسطين أو إسرائيل-الأردن). “فتح الشام” يعني إرادة اجتياح جميع هذه البلدان. وكما يعرف لبنان، فقد حاولت جبهة النصرة احتلاله عن طريق عرسال وريفها، وعن طريق القلمون. وقد ذبحت بعض جنودنا، لكنها لم تستطع أن تجتاح لبنان بسبب بسالة جيشه.
وعظم شأن “النصرة” بعدما ضمّت إلى صفوفها عناصر من “الجيش السوري الحرّ”، بتقديم أجور تفوق أجوره. و”الجيش السوري الحرّ” بنفسه تكوَّن من عناصر انشقوا عن الجيش النظامي في مقابل أجور أكبر.
ولم يعد الجولاني يطيق طاعة البغدادي. فقرّر الأخير مهاجمته وضم منظمته. فغير اسم “الدولة الاسلاميّة-العراق” إلى “الدولة الاسلاميّة في العراق والشام”، أي “داعش”.
واحتلّت داعش الرقّة، وقاتلت النصرة وحلفاءها السوريّين.
كانت المملكة السعوديّة قد موّلت بن لادن لزمن طويل، مما أتاح له إنشاء “القاعدة”. وقامت المملكة بعد ذلك بتمويل الزرقاوي، والبغدادي، وداعش. فيما بعد، توقّفت عن تمويل داعش، وصبّت اهتمامها على النصرة و”الجيش السوري الحرّ”، اللّذين يفضّلهما الغرب زاعمًا أنّهما “معتدلان”. إلاّ أنّ مجاهدي “الجيش السوري الحرّ” كانوا أوّل من قطع الرؤوس ونشر الشرائط المصوّرة لعرض هذه الأفعال. وحدهم تباهوا أمام عدسات الكاميرات، وعلى وقع صيحات التكبير، لأن أحد قادتهم أكل قلب جندي من الجيش النظامي.
وهكذا، قدّمت بعض الدول الغربية إلى الإرهابيّين في سوريا تدريبًا عالي الجودة، وأسلحة لإطاحة نظام بشّار الأسد العلماني، وذلك على الرغم من إرادة غالبية الشعب السوري الذي لا يفضّل المنظّمات الجهاديّة على الأسد.
يتحدّث الأميركيّون اليوم عن مهاجمة بشّار الأسد كما فعلوا مع صدّام حسين، وذلك بذريعة استخدامه الأسلحة الكيميائيّة، وهو أمر لم تتثبّت منه أيّ من بعثات التحقيق الدوليّة حتّى الآن. وقد شنوا بعض الضربات بمعاونة الدول الفرنسية والإنكليزية. ويُسمّى هذا العمل في القانون الدولي بـ”الاعتداء على دولة ذات سيادة”. فإذا افترضنا حدوث اجتياح أميركي شامل يشبه اجتياح العراق، فبمن يُستبدَل بشّار؟ وحدهم القادة الإرهابيون يتمتعون في سوريا بقوة تقارب قوته الشعبية. أمّا الأشخاص ذوو المستوى الأخلاقي الّذين انضووا في صفوف المعارضة قبل الحرب، مثل ميشال كيلو، فقد أزاحهم الإسلاميّون، فانسحبوا لأنّهم رفضوا أن يتمّ استخدامهم كضمانة للمنظّمات الجهاديّة.
إسقاط بشار الأسد، قد يترك إذًا في سوريا فراغًا مؤسّسيًا يُشبه الفراغ الّذي أحدثه الأميركيّون في العراق، لمّا استبدلوا الحكومة الّتي أجادت الإمساك بزمام الأمور، بأخرى ضعيفة، فاسدة، تطيع أوامرهم، مكروهة من الشعب. إنّها الاستراتيجيّة المعهودة للفاتح الّذي يعيّن الرجال الدمى لتمثيله. إذا حدث ذلك، فسنشهد ولادة وحش أفظع من داعش، قد لا يتمكن الغرب من الإفلات منه. فالجولاني وسيّده السابق، البغدادي، يتشاركان العقيدة نفسها، والطموحات نفسها، ويعتمدان الأساليب نفسها. تدمير داعش ساعد الجولاني في شكل مدهش، إذ خلّصه من أهم خصم له. ولم يبقَ ما يعيق وصوله إلى السلطة سوى حاجز واحد: بشّار الأسد.
إن زوال داعش في المشرق يخلي سبيل العديد من الإرهابيين كل يوم. فأين يذهب هؤلاء الإرهابيون المتضعضعون، إلَّا إلى مَن يدفع المال بوفرة، أي الجولاني وجبهة النصرة؟.
أمراء “النصرة” يأملون في الخلافة لتنظيمهم. وهم يستأنفون العمل على برنامجهم لغزو العالم. وينتظرون فرصتهم في صمت. على أمل ألَّا يقدمها لهم الغرب، فنحن في غنى عن ذلك.