عكس ما يظن الناس، فإن مصالح لا ضمير لها تؤثر في الإعلام الأميركي في حقل السياسة الخارجية. وهذه المصالح هي أحيانًا متصلة بالدولة الأميركية.
لا يسهل كشف ذلك، لأن الصحافيين في الولايات المتحدة الأميركية وقحون في حقل السياسة الداخلية. فلا يعرف المواطن الأميركي العادي ما يكفي في حقل السياسة الخارجية ليتمكن من التأكد من المعلومات المقدمة إليه… أو من معرفة التي تُخفى عنه.
كنتُ في لبنان في شباط ١٩٨٩، وتعاقدتُ مع صاحب مطبعة لطباعة صور لطاقم من رسوماتي. ثم عدتُ إلى أميركا، حيث كنت أعيش آنذاك، قرب بوسطن، ولم أكن أعلم أني ركبتُ في الباخرة الأخيرة قبل أن يُقفل مرفأ جونيه لمدة طويلة بسبب القصف. وبعد ثلاثة أسابيع، إذ كنتُ في حاجة إلى الصور، اتصلتُ بأهلي في لبنان، وسألت أبي هل تسلّمَ المطبوعات. فقال لي:
ــ إننا نسرع بقدر استطاعتنا. لكننا نعاني قصفًا مكثفًا. أنتِ تعلمين أننا في حرب، أليس كذلك؟
ــ كلا. لم أكن أعلم. فلو علِمتُ، لما سألتك عن المطبوعات.
ــ لم نعانِ قصفًا كثيفًا كهذا قط. لكننا سُعداء، لأن لبنان، أخيرًا، أعلن الحرب على سوريا.
كان الخبر لا يُصَدَّق. فقد بدأت الحرب سنة ١٩٧٥، وسرعان ما احتل الجيش السوري جزءًا من لبنان. وكان الجيش اللبناني يحاربه في بعض المناطق، لكن السياسيين اللبنانيين لم يتجرأوا يومًا على التحدث عن ضرب الجيش السوري علنًا في لبنان.
فاتصلتُ بالصحافيين اللبنانيين الذين أعرفهم في أميركا، فأكدوا لي وجود تعتيم إعلامي أميركي تجاه لبنان. وأرسل إلي أحدهم بالفاكس، نص برقية لأوقِّعها وأرسلها إلى البيت الأبيض، إلى جورج بوش الأب، الذي كان رئيسًا للولايات المتحدة آنذاك. وكان موقّع البرقية يدعو بوش إلى السماح للإعلام الأميركي بقول الحقيقة في ما يتعلق بالقصف السوري للبنان.
بعد بضعة أيام، توقف التعتيم الإعلامي الأميركي تجاه لبنان. فاتصلتُ بالصحافي نفسه وسألته ما جرى. فقال لي:
ــ لقد أرسلنا ٥٠ ألف برقية إلى البيت الأبيض. هذا ما أوقف التعتيم الإعلامي. اقرأي الـ«بوسطن غلوب».
في ٢ آذار، نشرت صحيفة الـ«بوسطن غلوب» الافتتاحية التالية:
«منذ ١٤ آذار، يعاني شعب بيروت قصفًا مدفعيًّا حوّل حياته إلى كابوس. ففي ليلة واحدة، أطلِقَت ٥ آلاف قذيفة من المواقع السورية في بيروت الغربية، على الأحياء المسيحية في بيروت الشرقية. وأضرم القصف النار في خزانات عملاقة من الوقود، وباتت الحرائق خارج السيطرة. وعطّل القصف محطات لتوليد الطاقة الكهربائية. وبما أن بيروت تستعمل المضخات الكهربائية لجلب المياه، فانقطاع الكهرباء يعني مدينة من دون نور ومن دون ماء.
«وقد ضُغِطَ على الصحف والتلفزيونات في أميركا، كي لا تنبئ الجمهور بمأساة قصف بيروت ــ مئات الإصابات، وآلاف اللاجئين الهاربين جنوبًا. والإدارة التي يرأسها بوش لازمت الصمت.»
مَن كان في وسعه الضغط على كل الإعلام الأميركي كي لا يقوم بواجبه بينما كانت الإدارة الأميركية تلزم الصمت؟ ولماذا؟
أما نتائج هذا الضغط على الإعلام في أميركا، فهي مذهلة:
ما بين ١٤ آذار و٢ نيسان ١٩٨٩، تاريخ الافتتاحية المترجمة أعلاه، يبدو، جراء قراءة مقالات الـ«بوسطن غلوب»، كأن شيئًا لم يحدث في لبنان، باستثناء هدنة من حين إلى آخر، وبعض القتال بين المسيحيين والميليشيويين المسلمين أو الدروز. وإذا قرأنا المقالات السبع التي تختص بهذا الموضوع بين ١٤ آذار و١ نيسان ١٩٨٩، نجد أن ٣ منها تتكلم على هدنات، و٤ تقول إن القتال هو بين المسيحيين والميليشيويين المسلمين أو الدروز، من دون أي تدخل سوري. واحد منها يقول إن الجيش السوري لا علاقة له بما يجري ويقوم بعملية إعادة انتشار وقائية. ولا يقول أي مقال إن سوريا لها يد في القصف. ومقال واحد (وهو التصحيح الثالث لمقال سابق)، يذكر أن جنرالاً يقود «حكومة عسكرية مسيحية» يقول إن القتال هو ضد القوات السورية.
وهذه خلاصات المقالات السبع التي تختص بهذا الموضوع بين ١٤ آذار و١ نيسان، ١٩٨٩، كما يجدها القارئ في أرشيف الـ«بوسطن غلوب».
ـ ١٥ آذار ١٩٨٩، عنوان: «مات ٤٠ لبنانيًّا في شجارات طائفية». ملخص: «مات أقله ٤٠ شخصًا، أكثرهم من المدنيين، في ١٥ آذار ١٩٨٩ في بيروت، جراء القصف المدفعي في معارك بين الجيش المسيحي وميليشيات المسلمين، فسقطَت مئات القذائف على الأحياء السكنية في بيروت.
ـ ١٥ آذار ١٩٨٩، (تصحيح ثالث). عنوان: «مات ٤٠ لبنانيًّا في شجارات طائفية». ملخص: «الجنرال ميشال عون، الذي يقود حكومة عسكرية مسيحية و٢٠ ألف جندي مسيحي، قال أمس: “إنها حرب تحرير ضد قوات الاحتلال السورية. وقد بدأت المعركة“. وقد دمّر القصف مركَز عون [وزارة الدفاع]. وقال البوليس إن قوات عون قصفَت، بعد الظهر، مدينة شتورة الحدودية [كذا: شتورة في وسط لبنان]، وهي مركز القوات السورية في سهل البقاع، شرق لبنان. فقطعَت الطريق السريع الذي يصل بيروت بدمشق. أما الجنرال سامي الخطيب، الذي اختاره سليم الحص ليقود الجنود المسلمين الـ٢٢ ألف في الجيش اللبناني، فقد ظل خارج المعركة المسيحية ـ الدرزية. وجنوده يفتقرون إلى المعدات، وهم متفرقون في كل الأراضي اللبنانية المسلمة، وهي إجمالاً تشمل بيروت الغربية، والأحياء الفقيرة في جنوب العاصمة، وجنوب لبنان والمناطق الساحلية.
ـ ١٦ آذار ١٩٨٩، عنوان: «تسود هدنة متوترة غير معلنة بين اللبنانيين». ملخص: «توقفت القوات المتخاصمة المسيحية والمسلمة، بعد يومين من العراك الذي قتل ٥٠ شخصًا وجرح آخرين، ويسود توتر غير معلن وسط إنذارات بتجديد القتال. »
ـ ١٩ آذار ١٩٨٩، عنوان: «يستمر القصف الأرضي في التلال قرب بيروت». ملخص: «قتال بالمصفحات والمدفعية بين العسكر الذي يقوده مسيحيون والميليشيات المقربة من سوريا، على التلال المحيطة ببيروت. وقد قُدِّمَت أسباب للقتال الأخير.»
ـ ٢١ آذار ١٩٨٩، عنوان: «قتال بالمدفعية وغارات جوية تهز لبنان.» ملخص: «تصاعد العنف بين القوى المسيحية والقوى المسلمة في لبنان، فيما طائرات إسرائيلية قصفت مواقع فلسطينية في سهل البقاع».
ـ ٢٣ آذار ١٩٨٩، عنوان: «إعادة انتشار القوات السورية الموجودة قرب بيروت». ملخص: «نقَلَت سوريا قواتها في بيروت إلى مواقع جديدة، وطالبت بإطاحة الزعيم المسيحي ميشال عون. وسبب إعادة تنظيم الجيش السوري هذه، الخوف من إمكان قيام حرب بين قوات عون والمسلمين السوريين.»
ـ ٢٩ آذار ١٩٨٩، عنوان: «بدء الهدنة اللبنانية. استمرار القصف الأرضي». ملخص: «قبل الجيش اللبناني وقف إطلاق النار لإعطاء الجامعة العربية حظوظًا في المفاوضة لإنهاء الأزمة اللبنانية.»
غريبة تبعية الإعلام هذه، في بلد يدّعي أن إعلامه هو الأكثر حرية في العالم! في بلد حر، لا حاجة إلى إرسال برقيات إلى الرئيس، كي يروي الصحافيون مأساة بهذه العظمة. المال أو وسائل ضغط أخرى، تجعل الإعلام الأميركي يقبل، في موضوع السياسة الدولية (الذي يفوق كل المواضيع الأخرى أهمية) رقابة ذاتية تشبه الرقابة التي يفرضها الرعب في الديكتاتوريات.
وكان البيت الأبيض، بواسطة سفارته، يعرف كل ما يجري في لبنان. وقد نشرت ويكيليكس برقية كتبها السفير الأميركي في بيروت، جون ماكارثي، في ١٤ آذار ١٩٨٩. وهي تتكلم على القصف، وتقول إن نبيه بري أراد إنباء السفير أنه لم يكن هو مَن قصَف وزارة الدفاع اللبنانية. وطبعًا فهم السفير أنه يعني الجيش السوري. فباستثناء حركة أمل، لم يكن يوجد في بيروت الغربية، أي قوة تملك مدفعية تستطيع القيام بمثل هذا القصف، سوى الجيش السوري:
لماذا بقي جورج بوش صامتًا على مأساة لبنان في آذار ١٩٨٩، على الرغم من التقارير اليومية التي كانت تصل إليه من الدبلوماسيين والجواسيس؟
ربما لأن جورج بوش كان يريد إطلاق العنان للجيش السوري وللميليشيات التي تمولها سوريا والمملكة السعودية. فهو سيوافق على الاحتلال السوري الكامل للبنان (١٣ تشرين ١٩٩٠). وقبل هذا الاحتلال ببضعة أيام، سيحضّر جورج بوش الرأي العام الأميركي بدعوة ممثلي الأميركيين من أصل شرق أوسطي، إلى مقابلته في البيت الأبيض، في ٢٤ أيلول ١٩٩٠. وفي هذه الجلسة، رفض بوش فكرة مساواة لبنان بالكويت في الحقوق، وحافظ الأسد وصدام حسين في العقاب، وقد سفك حافظ الأسد الدم البريء أكثر من صدام. واجتاح حافظ الأسد لبنان، قبل أن يجتاح صدام حسين الكويت بكثير. لا بل أعلن بوش أن حافظ الأسد سيتدخل في لبنان لإنهاء انقسام هذا البلد (أي أنه سيجتاحه بكليته). وهكذا انتهت الجلسة:
ــ (امرأة:) أرجوك، دعني أطرح سؤالاً عن لبنان!
ــ (بوش:) أطلقي النار! [تكلمي في سرعة]
ــ(المرأة:)…دولتنا اتخذت تجاه الكويت جميع الإجراءات التي طلبنا أن تتخذها تجاه سوريا التي ارتكبت عدوانًا [على لبنان] مشابهًا للعدوان العراقي على الكويت. يبدو أن سوريا هي الآن حليفة دولتنا والدول الأخرى ضد العراق. هذا ما لا نفهمه، إلاّ اذا قررت دولتنا استعمال العدوان [على الكويت]، لإرغام حافظ الاسد على التصرف بالطريقة الحضارية التي نفرضها على صدام حسين. وهذا سؤالي: ما هي الخطة الذي نتّبعها لمنع سوريا من التصرف بحسب هذه المعايير؟ وإن لم تكن لدينا أي خطة، ألا يهدد تحالفنا مع سوريا، من الناحية الأخلاقية، موقفنا المتعلق بالجهد العالمي لمحاربة العراق؟
ــ(بوش:) الأشياء هناك معقّدة جدًّا، وتصعب الإجابة عن سؤالك في دقة. لكن ربما سيبرز من ذلك نظام عالمي جديد. من هنا يجب الخروج بحل سلمي لانقسام لبنان [بوش يدعي أن حرب لبنان أهلية]. لقد ذهبتُ إلى هذا البلد، وعملتُ فيه منذ سنوات. وأنا مسنّ بما فيه الكفاية… وأذكر أن لبنان كان مفترق طرق هادئًا. كانت تجارته تتابع سيرها، مهما جرى في سائر العالم، والبشر يعيشون في محبة، والأديان وطرق العيش المختلفة في ازدهار.
وأنهى بوش كلامه قائلاً:
ــ نريد تقديم المساعدة… لإعادة السلام إلى لبنان. ولسوريا دورًا أساسيًّا تلعبه في ذلك… وآمل أن يبرز من كل هذا، نظام عالمي جديد ـــ إن أردتم ـــ سيبرز إن بقينا جميعًا [مع حافظ الأسد] معًا للعمل في سبيل السلم في لبنان.
هكذا تكلم رئيس دولة ديمقراطية، علنًا، على ديكتاتورية تضع نهاية لنظام ديمقراطي بواسطة اجتياح دموي. عِلمًا أن حافظ الأسد كان أخ صدام حسين التوأم سياسيًّا، وأنه قتل أكثر منه بكثير، في بلده وخارجه.
ويجب مقارنة ذلك بالطريقة التي تعامل بها السلطة الأميركية السلطة السورية مذ غادرت الأخيرة لبنان، وقبلت الاعتراف به كدولة حرة وذات وجود مستقل، فتبادلا سفراء بينهما، للمرة الأولى في التاريخ. هذا، علمًا أن بشار الأسد، عكس أبيه، لم يكن قد ارتكب المجازر قبل إشعال الحرب في سوريا وإضرامها من قبل دول سنتكلم عليها في مقال لاحق.
© لينا المر نعمة،
بيروت، ٢٥ تشرين الثاني ٢٠١٤